Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
الذاكرة الفلسطينية
17 septembre 2015

فلسطين قضية عربية

 فلسطين قضية عربية

الكاتب: 

 

 


”لو كنت قائداً عربياً، لما هادنت اسرائيل أبداً. هذا طبيعي: لقد احتللنا بلادهم. نعم نحن نرجع بأصولنا إلى إسرائيل، ولكن هذا كان قبل ألفي سنة، فماذا يعني هذا لهم؟.  نعم لقد كانت هناك معاداة للسامية ، وكانت هناك نازية، وهتلر، ومعتقل آوشوتز، ولكن  هل كان أي من هذا خطأهم؟ هم فقط يرون شيئاً واحداً: أننا أتينا هنا وسرقنا بلادهم، فما الذي يجعلهم يقبلون بذلك؟“

ديفيد بن غوريون- أحد الآباء المؤسسين لـ”دولة اسرائيل”

”الاحتلال مسألة واضحة جداً وما تقتضيه مُدرك بشكل دقيق لدى كل عاقل من العرب واليهود. فهناك هدف واحد فقط للاحتلال، وهذا الهدف هو قطعاً مرفوض لدى عرب هذه البلاد، وهذه ردة فعل طبيعية ولا شيء سيغير منها“

زئيف جابوتنسكي- مؤسس اليمين الإسرائيلي

وضوح متبدد:

لا شيء يضر أي قضية في العالم أكثر من أن يتبدد وضوحها، ولا شيء أكثر من تطاول الزمان يمكنه تبديد هذا الوضوح. فالقضية تكون واضحة في البداية، لا يتساءل مناضلوها حولها، بل يتساءلون حول وسائل حلها، لكن ما إن يتأخر هذا الحل، وتزداد القضية تعقيداً، وتتداخل فيها أطراف متعددة، حتى يبدأ التساؤل بالانتقال من وسائل تحقيق الحل إلى التساؤل حول القضية نفسها. الثورة السورية على سبيل المثال كانت شديدة الوضوح في بدايتها، حيث أنها ثورة الشعب المظلوم ضد النظام الظالم، وهي سعي حثيث نحو الحرية والعدالة، لكن ما إن طال أمدها، حتى بات هذا الوضوح يتبدد، فأصبح الثوار ”معارضة“، واختل الخط الفاصل بين ”الثورة“ و”الجهاد“، وبدأ الصراع ينتقل من كونه صراعاً لأجل التحرر من الاستبداد، إلى صراع بين ”أهل السنة والصفوية/العلوية“. صحيح أن اللحظات الحاسمة في تواريخ الأمم والمجتمعات- كلحظات الثورة، النضال من أجل الاستقلال، المقاومة…- تُظهر في الشعوب أفضل ما فيها في البدايات، لكن ما إن يتطاول الأمد حتى تبدأ بإظهار أوساخها، تظهر الخيانة، والتنكر للقضية، ترتفع المصالح  الخاصة لتغطي المصلحة العامة، وتتشوش القضية فتتفرق ردود الفعل.

لا شيء في تاريخ العرب الحديث يؤكد هذا الأمر أكثر من قضية فلسطين، فالوضوح الذي قاد الجيوش العربية لدول مصر والأردن وسوريا والعراق ولبنان والسعودية وفرق المقاومة الفلسطينية لحرب ٤٨ بعد أيام قليلة من إعلان دولة اسرائيل قد تبدد، والآن، بعد سبعة عقود، تحولت قضية فلسطين من قضية ”عربية“ إلى قضية ”فلسطينية“، وتحولت الدول التي واجهت اسرائيل أكثر من مرة- كالأردن ومصر- إلى دول مسالمة، وتلاشى خيار التحرير لصالح عملية سلام هي في حقيقتها عملية استسلام ممنهج، وانتقل الموضوع من كونه ”تحرير الأرض المحتلة“ إلى ”بناء دولة فلسطينية في غزة والضفة“، وبالإضافة لهذا الخط – الذي تسميه الولايات المتحدة بالمعتدل- نجد أيضاً نمو ظاهرة المتصهينين العرب، الذين يسعون لترديد دعاية اسرائيل- الديمقراطية، المتقدمة،…إلخ- مقابل ازدراء وتشفي غريب من الفلسطينيين.

وبالإضافة لهذا اللون وذاك من ظواهر تبدد وضوح القضية وظهور سرديات متنوعة في فهمها وإدراكها، يوجد هناك خطاب ”إنسانوي“ منتشر بين الشباب العرب داعم للقضية باعتبارها ”قضية انسانية“، وهذه المقالة تهدف لمناقشة ”حدود“ هذا الخطاب والمآزق التي يحيط نفسه بها في دفاعه عن القضية، خصوصاً إذا كان المتبني له عربياً. وللقيام بهذه الغاية، اخترت مقالة كتبها محمد الطويرقي بعنوان ”مبررات الخطاب القومي والإسلامي في القضية الفلسطينية“ والتي تعبر كأفضل ما يكون عن هذا اللون من التعاطي الإنسانوي مع القضية. وسبب اختياري لمقالته مزدوج: أولاً لأنه يعبر بشكل جيّد عن هذا الخطاب الذي أرغب في تبيين حدوده وجانبٍ من تهافته، وثانياً لأنه في مقالته استشهد بواحدة من مقالاتي كدليل على طرحه الذي يدين ما دعاه بـ”المبررات القومية“. وفي سبيل مناقشتي لمقالته سأقسم هذه المقالة لثلاثة أقسام: سأقوم بالقسم الأول بتلخيص طرح الطويرقي وسأوضح أن مقالته لم تكن تتحدث عن موضوع واحد بل موضوعين منفصلين، ثم سأقوم في القسم الثاني والثالث بمناقشة كل واحد من هذين الموضوعين.

مقال الطويرقي:

بغض النظر عن عنوان المقال الذي يوحي بأنه متعلق حصراً بموضوع واحد، فإن الطويرقي في مقاله هذا لم يتناول موضوعا واحداً، بل موضوعين اثنين، وسنلخصهما بالتالي:

الموضوع الأول:

ويدور حول التساؤل التالي: ما هو موقفنا نحن كطرف ثالث من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ يجيب الطويرقي على هذا السؤال بالتالي: موقفنا هو أن ندينه باعتباره اعتداء على بشر أبرياء مسالمين يعيشون في تلك المنطقة التي اسمها فلسطين.

وانطلاقا من هذه الإجابة يبدأ الطويرقي بإدانة ”الخطاب القومي والإسلامي“ لأنهم ينظرون للصراع باعتباره – وكل ما بين علامتي تنصيص هو كلامه بالنص- ”صراع من أجل الهوية بالأساس وليس من أجل الإنسان“، وهذه الرؤية تحول الصراع من بعده الإنساني إلى ”صراع هويات وقوميات“، ومن هذا المنطلق يجب إدانة الخطاب القومي لأنه ”يتجاهل الأساس الإنساني الذي يشترك فيه كل البشر“ ويحول القضية إلى قضية قومية وصراعات ثقافية. ويزيد الطويرقي توضيحا في رفضه لجعل الهوية القومية أساسا للصراع بأن هذه ”الهويات القومية والدينية… لا يمكن أن ترتقي لأن تكون حقوق إنسانية بذاتها، هي تكتسب شرعيتها كونها أحد تطبيقات حقوق الإنسان في التعبير والعيش“.

بعد هذا النقد الإنسانوي، ينتقل الطويرقي لتفنيد المبرر التالي: توظيف ”الخطاب القومي“ في الصراع ضروري نظرا لقوته في الحشد، ورفضه له مبني على الحجج التالية:

أ- هذا مبرر براغماتي، وإذا أردنا الاستسلام لمنطقه البراغماتي، فلماذا لا نوظف الخطاب الديني ونوسع رقعة المخاطبين والمتفاعلين مع القضية؟ بل لماذا لا نعتبرها ”قضية انسانية“ فنكسب تعاطف جميع البشر في العالم؟

ب- إن توظيف ”الخطاب القومي“ للقضية هو توظيف ضعيف، نظرا لأنه لم تكن هناك دولة عربية، وبالتالي يصبح توظيف الخطاب الديني أكثر معقولية كون الدولة العثمانية كانت ”امبراطورية دينية“.

الموضوع الثاني:

قبل أن يختم مقاله، استنزف الطويرقي الفقرات الأخيرة منه للتأكيد على القضية التالية: أن بنية الخطاب القومي لا تختلف كثيرا عن الخطاب الأممي الديني، ويستفيض في توضيح أوجه التشابه بالتالي:

أ- الخطاب الأممي الديني ينقل الدين من الممارسة الفردية ويحوله إلى ”هوية تؤسس لسلطة سياسية“، والخطاب القومي يقوم بتحويل ”الهوية الثقافية لمجتمع ما إلى أساس تشريعي لتكوين السلطة“.

ب- كما في الدين محرمات كبرى يجب على الدولة حراستها، فكذلك الخطاب القومي يحول ”القضايا القومية“ إلى محرمات يجب على الدولة حراستها وحماية المجتمع من المساس بها أو التشكيك بها.

ج- الخطاب القومي يستمد شرعيته من كونه يمثل ”قرار الأغلبية العربية“ تماما مثل الخطاب الديني.

د- صحيح أن الخطاب القومي يختلف عن الخطاب الديني في كونه علماني، إلا أننا- ولسان الحال هنا هو لسان حال الطويرقي- يجب أن نلاحظ أمرين: الأول، أنه يوجد إسلاميين أكثر ”ممارسة علمانية“ من القوميين كإسلاميي تركيا، والثاني، أن فهم القوميين للعلمانية فهم كلاسيكي يتعارض مع العلمانية الحديثة.

وأخيراً، قام الطويرقي بإثبات نقطته الأخيرة بتطبيق عملي وذلك عبر تأكيده أن استبدال لفظ ”القومية العربية“ من مقالي ”ماذا يعني أن تكون عروبياً في هذه الأيام“ بالأممية الإسلامية، لن يؤثر أبداً في بنية المقال، وبالتالي يرى في ذلك تأكيداً على أن الخطابين متماثلين بنيوياً.

هذا بشكل مقتضب ملخص مقاله، وقبل أن أبدأ بمناقشة أفكاره يجب عليَّ أن أوضح أني أرى القضية الفلسطينية قضيةً عربية، وأن الصراع هو صراع بين العرب والمحتلين الإسرائيليين، وأثناء مناقشتي لما طرحه الطويرقي سأوضح مبررات هذا الموقف، وسأقسم نقاشي إلى قسمين: قسم يتناول الموضوع الأول المتعلق باعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية وهو الذي سأركز عليه أكثر وأقدمه في الجزء الأول من المقال، ثم قسم أخير يتناول القضية الثانية المتعلقة بالتشابه البنيوي بين الخطاب الديني والقومي وهو ما أتناوله في الجزء الثاني من المقال.

قضية سياسية… قضية عربية:

في الموضوع الأول حول قضية فلسطين يعاني مقال الطويرقي من مشكلتين رئيسيتين: الأولى، هي ابتسار السياسة والنظر إليها باعتبارها قانون. الثانية- وهي في جزء منها متداخلة مع الأولى- وهم المساواة السياسية بين البشر لمجرد كونهم بشراً. وفي ما يلي بيان هاتين النقطتين:

السياسة كقانون؟

هناك فرق جوهري بين أن تأتي عصابة وتسرق منزلاً، وبين أن تأتي أمة لتحتل أرض أمة أخرى، والفرق يتمحور في كون الحالة الأولى ”جريمة“، في حين أن الحالة الثانية ”احتلال“، أي أن الحالة الأولى تعتبر ”قضية قانونية“، والثانية تعتبر ”قضية سياسية“.

الجريمة تفترض وجود قانون مسبق، إذ بدون قانون يحدد ما هو قانوني وما هو غير قانوني، لا يمكن أن نحدد ما إذا كان عملٌ ما جريمة أم لا. لنأخذ ”القتل“ كمثال، فالقانون يحدد متى يكون القتل جائزاً ومتى يكون جريمة. فالقتل دفاعاً عن النفس لا يعتبر جريمة، وعندما تنفذ الدولة حكماً بالإعدام على أحد مواطنيها فهذا لا يعتبر جريمة. لكن عندما يطعن شخص آخر في حديقة عامة عدواناً وظلماً فهذا يعتبر جريمة، فوجود قانون مسبق ضروري لوصف حادثة ما بأنها جريمة.

بعد وصف فعل ما أنه جريمة، فإننا بالضرورة نحدد أركان هذه الجريمة، أي أننا أجبنا عن هذه التساؤلات: من هو الجاني؟ ومن هو المجني عليه؟ وما هي أداة الجريمة؟ وما هو مسرح الجريمة؟…إلخ. إن الجناة والمجني عليهم في الجرائم القانونية لا يكونون إلا أفراداً، لا يمكن إدانة دولة على جرائم قانونية، ففي محاكمات نورنبيرج التي تكفلت بمقاضاة الجناة في الجرائم التي ارتكبت في ظل النظام النازي بعد الحرب العالمية الثانية لم يتم اعتبار الجاني هو ”النظام النازي“ أو ”الحزب النازي“، بل تمت مقاضاة أشخاص وأفراد بلحمهم ودمهم. نستطيع أن نقول أن ”النظام السوري يقوم بقتل شعبه“، لكن عندما يريد المجني عليهم أو موكليهم أن يقيموا دعوى ضد إحدى الجرائم فلن تقبل دعواهم إن كانت مقدمة ”ضد النظام“، بل يجب أن تكون موجهة ومحددة ضد أفراد طبيعيين لا كيانات معنوية أو أنظمة أو دول. هذا الأمر ينطبق أيضا على المجني عليهم، لا يمكن أن أذهب للقاضي وأقيم دعوى على شخص فاسد بحجة أن الفساد يضر المجتمع ككل، ذلك لأن المجتمع ليس فرداً، ولأن أول سؤال سيسأله القاضي: هل تضررت أنت؟ فإذا كان جوابي لا، سيسألني: هل وكّلك شخص متضرر للترافع عنه؟ فإن كانت الإجابة لا، فسيسقط القاضي الدعوى لأن لا صفة لي فيها.

هذا الشرح المطول لمعنى أن تكون قضية ما ”قانونية“ مهم جدا لأنه سيوضح المآزق التي سيقع فيها من يرى ما يحدث في فلسطين على أنه ”جريمة اعتداء على بشر يقطنون في فلسطين“ كما يفعل الطويرقي، بل إنه حتى في أمثلته يقوم بطرح أمثلة على جرائم ”قانونية“ ويتساءل ماذا سيفعل القاضي حين كذا وكذا، فهو ينظر لما يحدث في فلسطين كما لو كان قاضياً. هذا الموقف ينطوي على عدد من المآزق وهي كالتالي:

أول هذه المآزق هو السؤال التالي: ما هو القانون الذي سنستند عليه في تجريم ما وقع في فلسطين؟ أمامنا ثلاث خيارات: الخيار الأول هو الاحتكام لقانون البلاد لحظة وقوع الجريمة، وهذا يعني الاحتكام للقانون البريطاني، نظراً لكون فلسطين لحظة إعلان دولة اسرائيل كانت في آخر أيام الانتداب البريطاني، وإن قلنا أننا سنحتكم للقانون العثماني، فإن الدولة العثمانية لحظة اعلان اسرائيل كان قد مر على زوالها ثلاثة عقود. إذاً لا يوجد قانون محلي يمكن الاحتكام إليه، وإن وجد فإنه سيكون القانون البريطاني الذي هو في نفسه احتلال، وهو الذي قدم فلسطين على طبق من ذهب للصهاينة، أي أن الاحتكام للقانون المحلي لحظة وقوع الجريمة، سينتهي بنا لنتيجة هي لصالح الاسرائيليين، حيث أن البريطانيين أعطوهم الأرض ورحلوا.

لننتقل للخيار الثاني، وهو القانون الدولي، وعلى الرغم من المآزق التي يعاني منها هذا القانون نظراً لأنه لا قانون بلا سيادة، إلا أننا حتى لو سلمنا به جدلا فإننا سنجد أيضا أن الوضع يقف لصالح إسرائيل، إذ أن قرار التقسيم الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين لدولتين: واحدة لليهود وواحدة للعرب- والذي احتفى به الصهاينة مع بعض التحفظات- كان هو الأساس الذي تم بناءً عليه فرض الانسحاب على  بريطانيا وإعلان تأسيس “دولة اسرائيل”.

ماذا بقي؟ لم يتبق إلا الخيار الثالث وهو ”القانون الطبيعي“، وهو الذي أعتقد أن الطويرقي يتبناه، والقانون الطبيعي هذا هو ميتافيزيقا ليبرالية تفترض وجود حقوق طبيعية في كل إنسان بمجرد كونه انسانا، ومن هذا المنطلق فإن الاعتداء على هذه الحقوق هو جريمة لأنها مخالفة لهذا القانون الطبيعي الذي يرجعه جون لوك إلى مصدر إلهي، وكل خطاب ”حقوق الإنسان“، الذي يستند إليه الطويرقي كثيراً في تجريمه لما يحدث في اسرائيل، إنما يستند على فرضية وجود هذا القانون الطبيعي، السابق على كل قانون والحاكم على أي منها، وبغض النظر عن حقيقة وجود مثل هذا القانون أم لا، فإن الاستناد على مثل هذا القانون لن يؤدي بنا إلى ”تجريم“ وجود اسرائيل نفسها، بل قصارى ما يمكن لهذا القانون أن يمدنا به هو تجريم قتل بعض الابرياء هنا، وسجن بعضهم هناك، وسرقة ملكيات بعضهم هنا، وهو لن يدين ”إسرائيل“ كدولة وأمة بهذه الجرائم، بل سيدين الأفراد الجناة فقط، لأن الجريمة القانونية كما ذكرنا لا تكون إلا ضد أفراد طبيعيين، أي أن كل ما نستطيع معالجته عبر قانون الطبيعة وحقوق الإنسان هو ”بعض الانتهاكات الاسرائيلية“ والتي يمكن تسويتها دون أن ينهي الأمر مسألة ”الاحتلال“.

وبشكل مختصر، فمهما بحثنا عن القانون الذي نريد أن نعتمده لتجريم الأفعال التي تحدث في اسرائيل، فإن أقصى ما يمكن أن نصل إليه هو أن نهاجم اسرائيل عندما تغتال طفلاً كمحمد الدرة، أو تعتقل شخصاً بشكل غير نظامي كسامر العيساوي، أو تهاجم مدنيين في قطاع غزة كما حدث قبل عدة أسابيع. وسنهاجمها بنفس الميزان الذي سنهاجم فيها عمليات المقاومة التي تستهدف المحتلين معتبرين إياها- في حال ما كان اعتمادنا على القانون الطبيعي- ”اعتداءً على مدنيين ابرياء“، بل قد يصل بالبعض اعتبارها ”إرهاباً“: هذه الكلمة التي بقدر كونها لا تعني شيئا بقدر ما تحمل كما هائلا من الشحنة السالبة التي تحيل إي انسان تلتصق به إلى شيطان. إذا نظرنا للأمور من ناحية قانونية، فإننا سنساوي بين من يحتل وبين من هو تحت الاحتلال، وسنقوم بالتدقيق في ”الجرائم“ التي تقع دون النظر لمن قام بها. بكلمة واحدة: المحكمة لا تستطيع أن ترى الاحتلال، كل ما تراه هو أفعال الأفراد.

بل لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، وهذا ثاني المآزق، بل يتعداه ليصل لنتائج مضحكة مثل أن الجناة الذين قاموا بجرائم القتل توفوا، وبالتالي فإنه من الظلم معاقبة أبناءهم على جرائم لم يرتكبوها، فيصبح قتال أبناء العرب المقتولين لتحرير أرضهم من أبناء القتلة الصهاينة هو فعل جريمة إذا نظرنا للأمور من ناحية قانونية. أي أننا حتى لو تجاوزنا معضلة القانون الذي سنحدد فيه الجريمة، فإننا سنقع في مطب أننا لن نستطيع أن ندين إلا أفرادا ولن ندافع إلا عن أفراد بدون النظر لهوياتهم.

أخيرا- وهنا نتحدث عن المأزق الثالث- لنفرض أننا تنازلنا عن كل شيء ورضينا بالصورة القانونية التي يقدمها لنا الطويرقي للصراع، سنتساءل: ما هي المحكمة التي ستحقق للفلسطينيين فتات العدالة التي منّ عليهم بها الطويرقي؟ هل هي الولايات المتحدة مثلاً؟ أم هي محكمة الجنايات الدولية؟ نحن نعلم جيداً مدى تحيّز هذه المؤسسات لصالح اسرائيل. ماذا نفعل؟ هل نعلن الثورة على كل هذا العالم ونعيد بناء عالم جديد عادل؟ ولكن عند هذه النقطة تحديدا علينا أن نتسائل: من هم نحن؟ وعند هذا السؤال، سنكف عن الحديث بشكل قانوني، وسنبدأ بالحديث سياسيا.

إن هذه المآزق كلها نابعة من تكييف قضية فلسطين باعتبارها قضية ”قانونية“، واعتبارها قضية ”قانونية“ نابعة من رؤية المسألة على أنه صراع بين ”أفراد“. في حين أن المسألة ليست صراعاً بين أفراد بل هو صراع بين جماعات سياسية، والصراع بينهما ليس على ملكية أرض ملكية تجارية بل على السيادة على هذه الأرض، وهذا ما سأوضحه الآن بشكل أكثر تفصيلا.

كل فرد يولد ضمن جماعة سياسية، لا يمكن أن يوجد فرد في العراء، بل يولد ضمن جماعة سياسية تتعهده في سنواته الأولى التي لا يستطيع فيها الاعتماد على نفسه بالرعاية والتنشئة والتربية التي تغرس فيه قيم هذه الجماعة ولغتها وتاريخها. علاقة الفرد بجماعته السياسية هي علاقة انتماء لم يخترها ابتداء مثلما أنه لم يختر أسرته وشكله ومكان ووقت ولادته، إلا أنه- على عكس أسرته وشكله- بإمكانه دوماً تغيير انتماؤه وأن ينتقل إلى جماعة سياسية أخرى، وهذا الفعل – أي الانتقال من جماعة سياسية إلى جماعة سياسية أخرى- هو الهجرة. والهجرة تختلف عن الخيانة، إذ إن الخيانة هي التعاون مع جماعة سياسية أخرى معادية للجماعة السياسية التي يعلن هذا الفرد أو ذاك انتماؤه لها، فالهجرة إعلان مفارقة لجماعة وانتماء لأخرى، لكن الخيانة هي اعلان انتماء لجماعة والتعاون مع أعدائها ضدها. رفض الانتماء إلى جماعة ما، لا يعني عدم الانتماء مطلقا، بل يعني- ضرورةً- الانتماء لجماعة سياسية أخرى، إذ- كما قلنا- لا يوجد أفراد خارج الجماعات السياسية. هذا الانتماء إلى جماعة سياسية يتخذ أشكالا متعددة ومتنوعة، ويتغير بتغير الجماعات السياسية، وتغيره بشكل رئيسي ينطلق من نوعية الالتزامات والواجبات التي تترتب على كل من الجماعة السياسية والفرد، فكما أن الجماعة السياسية توفر الحماية للفرد فهي تتوقع منه التضحية لأجلها، وكما أنها توفر له الحرية فهي تتوقع منه التقيد بأعرافها وقوانينها….إلخ، وهذه العلاقة التي أوصفها هنا هي العلاقة التي حكمت علاقة الفرد بقبيلته، وعلاقته بقريته، وبعشريته… عندما كانت القبيلة والقرية والعشيرة جماعات سياسية.

في العالم الذي نعيش فيه اليوم نجد أن الأرض مقسمة إلى مجموعة من الدول، هذه الدول تمثل الشكل الحديث للتنظُّم السياسي، إذ إن كل دولة من هذه الدول تقوم على دعوى تمثيل سيادة جماعة سياسية- أو أمة- على رقعة جغرافية محددة بحدودها، فدولة فرنسا على سبيل المثال تمثل سيادة الجماعة السياسية الفرنسية- أو الأمة الفرنسية- على حدود جغرافية معينة. الفرق بين الجماعة السياسية الحديثة والجماعة السياسية التقليدية، أي الفرق بين الأمة من جهة، وبين القبيلة والعشيرة من جهة أخرى، هو أن الجماعة السياسية الحديثة جماعة متخيلة في حين أن الجماعات التقليدية جماعات مُدركة. في حالة العشيرة والقرية والقبيلة كل فرد يعرف بقية أفراد جماعته، يعرفهم بالشكل أو بالاسم أو بالسماع، في حين أن الأفراد في الأمة لا يعرفون بعضهم بشكل مباشر بل يستطيعون تخيل أنفسهم ضمن جماعة مشتركة. وعندما أقول ”تخيّل“ فأنا لا أقصد بالتخيّل هنا معنى ”التوهم“ أو خداع النفس، بل أقصد به معنى مقابل للإدراك الحسي المباشر، أي إدراك للإنتماء المشترك مع أفراد آخرين غير مدركين حسيا بناء على عناصر يعيشون ضمنها بشكل يومي، عناصر كاللغة والتاريخ يتم ادراكها عبر وسائل اتصال حديثة كالتلفاز والطباعة والإذاعة…إلخ، فابن القرية يعرف ابن القرية الآخر الذي يشاركه الانتماء لجماعته السياسية بشكل حسي ومباشر، في حين أن الأمريكي الذي يعيش في واشنطن يمتلك من العناصر والأدوات الحديثة ما يمكنه من تخيل نفسه متشاركا مع شخص في ولاية كاليفورنيا- أي شخص لم يره ولا يعرفه بشكل شخصي- ضمن جماعة سياسية.

انطلاقا من هذا التوصيف، نستطيع فهم ماذا يمكن أن نعني عندما نقول أن أرض فلسطين خاضعة لسيادة جماعة سياسية، وأن الإسرائيليين قاموا باحتلال هذه الأرض وتشريد أفراد تلك الجماعة وانتهاك سيادتها، وأن هذا الاحتلال يعطي لأفراد تلك الجماعة السياسية التي تم احتلالها ليس فقط حق بل واجب مقاومة هذا الاحتلال، وتعاون أحد أفراد هذا الشعب مع الاحتلال ضد جماعته السياسية يعتبر خيانة للإنتماء الذي يجمعه بجماعته. بهذا المعنى تكون قضية فلسطين ”قضية سياسية“، وليست قضية قانونية، قضية جماعة سياسية وليست قضية مجموعة أفراد.

وبهذا المعنى أيضاً يصبح موقف الفرد المنتمي للجماعة السياسية التي تعرضت للاحتلال يختلف عن موقف الفرد غير المنتمي، فالفرد الذي ينتمي لتلك الجماعة من واجبه أن يدافع عن جماعته وأن يضحي من أجلها وأن يسعى في سبيل تحررها من الاحتلال. الفرد المنتمي للجماعة السياسية ليس ”طرفاً ثالثاً“ في الصراع، ليس ”طرفاً محايداً“ يلعب دور الحكم، بل هو متورط في الصراع وأحد أطرافه وهو الطرف الواقع عليه الظلم وهو الذي يقع عليه الدفاع عن نفسه والمقاومة، إنها المسؤولية الجماعية التي تنبع من الانتماء إلى جماعة سياسية. بالمقابل، فإن الفرد غير المنتمي للجماعة السياسية يُفَسَّر تعاطفه ومناصرته للقضية بكونها موقفاً أخلاقياً دفعه إليه نبله ومناصرته لما يراه حقاً، فهو ليس عليه التزام سياسي للدفاع عن هذه القضية، إنما محض التزام أخلاقي، في حين أن الفرد المنتمي للجماعة عليه التزام سياسي، أي التزام نابع من ذلك الانتماء، وهو لا يملك ترف التخلي عنه أو التخاذل عن القيام به إلا عندما يقرر ”هجر“ جماعته إلى جماعة أخرى.

 خاص بموقع “المقال”

 

Publicité
Publicité
Commentaires
الذاكرة الفلسطينية
  • موقع يهتم بالشان الفلسطيني, تاريخا وشعبا, ارضا وقضية, والموقع يهتم بالذاكرة الفلسطينية بناءا على : -مختلف وجهات النظر. تعدد اراء الكتاب والمنظرين. - الاعتماد على المعلومة دون تحريفها - ذكر المصادر الخاصة بالمعلومة.
  • Accueil du blog
  • Créer un blog avec CanalBlog
Publicité
Archives
Publicité