20/09/2011
ماجد كيالي



الانقسام من حول الاستحقاق
الاستحقاق في إشكالياته
لكن ما العمل؟ ما البديل؟
لدى إسرائيل ما تخشاه وما تخسره

أخيراً أزفَ موعد "استحقاق أيلول" الذي حددته القيادة الفلسطينية موعدا لها لتقديم طلب نيل العضوية الكاملة في هيئة الأمم المتحدة (الدولة رقم 194، ويا للمصادفة!)، الذي مهّدت له طوال العامين الماضيين بالعمل على بناء مؤسسات هذه الدولة (في الضفة) وبمخاطبة مختلف الدول لحثها على قبول هذا الطلب.

الانقسام من حول الاستحقاق
معلوم أن هذه الخطوة كانت محط خلاف، وموضع التباس، بين الفلسطينيين. ومثلا، فإن الفريق الذي محضها تأييده انطلق في ذلك من اعتبارها خطوة إلى الأمام في الصراع مع إسرائيل، وعلى أساس أن نجاحها سيعني أن الفلسطينيين حققوا إنجازا سياسيا ودبلوماسيا على غاية في الأهمية، لا سيما في مواجهة إسرائيل التي ترفض قيام دولة مستقلة للفلسطينيين.

وفي إطار هذه النظرة، فإن هذا الفريق رأى في التوجّه إلى الأمم المتحدة نوعا من التمرّد على المسار التفاوضي العقيم، الذي استطاعت إسرائيل تحويله إلى دوامة مرهقة ومهينة ولا مخرج منها بالنسبة إلى الفلسطينيين. وبالنسبة له فإن التحول إلى دولة يمكن أن يجعل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين بمثابة صراع بين دولتين، مع كل ما يترتب عن ذلك من استحقاقات في القانون الدولي وفي التعاملات الدولية.

ولا يخفى هنا، أيضا، أن القيادة الفلسطينية تسعى من وراء ذلك إلى تعزيز شعبيتها بين الفلسطينيين، بتحقيقها إنجازا ما على الصعيد الدبلوماسي، في محاولة منها لتغطية الإخفاق في العملية التفاوضية مع إسرائيل.
أما الفريق المقابل فيرى في هكذا خطوة امتدادا للمأزق التفاوضي الذي أسرت قيادتهم نفسها فيه منذ عقدين، ونتاجا لضيق أفقها وعجزها عن التحول نحو خيارات سياسية أكثر رحابة. ويتخوّف أصحاب وجهة النظر هذه من أن تكون هذه خطوة أخرى في المجهول، لأنها ربما تتمخّض عن اختزال الأهداف الفلسطينية إلى مجرد دولة في الضفة والقطاع، واختزال تعريف الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الأراضي المحتلة (1967)، ما يخرج فلسطينيي 48 واللاجئين من إطار الشعب الفلسطيني، وتصفية قضية اللاجئين، وإلغاء المكانة القانونية لمنظمة التحرير، التي تعتبر بمثابة الكيان السياسي المعنوي للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة؛ وهو أمر أكدته تجربة تهميش المنظمة بعد قيام السلطة (1994).

وفي التجربة التاريخية فقد كان ثمن اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير في اتفاق أوسلو (سبتمبر/أيلول 1993) "تطيير" هذه المنظمة لصالح السلطة، وإنهاء طابع حركة التحرر الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد سلطة محدودة السيادة، تحت الاحتلال. أيضا فقد كان ثمن ذلك اتفاقا منقوصا ومجحفا ومهينا للفلسطينيين وحقوقهم، ما تمثل بتأجيل البتّ بقضايا المستوطنات وحقوق اللاجئين والقدس والحدود، وعدم توضيح ماهية الحل النهائي، وحتى عدم تعريف إسرائيل باعتبارها دولة محتلة، وهي أمور ما زال الفلسطينيون يدفعون ثمنها منذ عقدين.

الاستحقاق في إشكالياته
طبعا ليست مسألة الاعتراف بهذه الدرجة من التبسيط، بل إنها جدّ معقدة، ذلك أن هذه الخطوة على كل ثغراتها وإشكالياتها والتحديات التي يمكن أن تنشأ عنها، تجد معارضة عنيدة لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، أيضا. ومثلا، فهذه إسرائيل هدّدت بإنهاء العمل باتفاق أوسلو (كأنها لم تنه العمل به منذ زمن!)، وبتقييد السلطة ومنع العوائد الضريبية عنها، فيما تهدد الولايات المتحدة بوقف تمويلها لموازنات السلطة، وباستخدام حقها في النقض "الفيتو".

وتفسير ذلك أن إسرائيل ترى بأن أي إنجاز تحققه السلطة في المحافل الدولية -حتى لو كان ناقصاً- سيكون بالضرورة على حسابها، وعلى حساب مكانتها الدولية؛ تماما مثلما عملت على تقويض اتفاق أوسلو بالرغم من أنه اتفاق ناقص ومجحف ومهين بحق الفلسطينيين.

على ذلك فإن مناقشة هذا الاستحقاق على طريقة "من مع؟ ومن ضد؟" لا يعني شيئا، وليس له جدوى من الناحية العملية، وهو سؤال يبسّط الأمور ويسهّلها ولا يعطي إجابات مناسبة لها. وسيّان أخفقت القيادة الفلسطينية أم نجحت في هذه الخطوة، فثمة أسئلة، وتداعيات ومخاطر وتحديات، وخيارات ومتطلبات جديدة ينبغي التعامل معها، وهذا ما ينبغي الاشتغال به.

مثلا، في حال أخفقت هذه الخطوة فإن الفلسطينيين معنيون بالإجابة عن سؤال "ماذا بعد؟"، ما هي الخيارات البديلة لاستعادة الحقوق بعد فشل خياري التفاوض والأمم المتحدة؟ ماذا بشأن المفاوضات؟ وما العمل بشأن السلطة؟ وإلى أين سنذهب من هنا؟ وماهية الاستعدادات والإمكانيات والمتطلبات؟

بالمقابل فإن نجاح هذه الخطوة سيضع الفلسطينيين أمام تحديات جديدة، إذ سينقل الاعتراف الدولي من المنظمة إلى السلطة، وهذا يعني سياسيا وقانونيا انتهاء دور المنظمة، وحصر ولاية السلطة بالفلسطينيين الذين يقطنون في الإقليم الذي تمّ الاعتراف بسيادتها عليه (ولو كانت سيادة ناقصة).

فضلا عن كل ما تقدم، وبغض النظر عن بقاء المنظمة من عدمه، فإن هذا الأمر سيطرح تساؤلات جديدة من نوع: ماذا بشأن مصير اللاجئين؟ هل سيصبحون في مكانة جاليات للدولة التي تم الاعتراف بها للتوّ؟ هل سيمنحون تلقائيا جنسيتها؟ وفي هذه الحال ماذا بشأن حقهم في العودة؟ أما في حال أن هؤلاء سيبقون بمكانة لاجئين، في أماكن لجوئهم الحالية، فماذا سيعني ذلك بالنسبة لعلاقتهم القانونية بالدولة الناشئة؟ هل سيبقون فلسطينيين أم سيصبحون شيئاً آخر، أو ربما بمكانة شبيهة بمكانة فلسطينيي 48، أي خارج المعادلات السياسية؟ وحينها ماذا سيتبقى من مفهوم وحدة الشعب الفلسطيني؟ وماذا سيبقى من مفهوم التحرر الوطني؟

ولعل مشكلة القيادة الفلسطينية في هذا الخيار أنها صورته كخيار إستراتيجي، أو بمثابة بديل سياسي عن المفاوضات، في حين أنه امتداد لها، وتم اعتماده لتحسين مكانتها في العملية التفاوضية لا أكثر؛ وهو نتاج لعقلية "الحياة مفاوضات"، أو عقلية "لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات أولا وثانيا وثالثا"!
معنى ذلك، أنه مهما حصل بشأن استحقاق أيلول فإن القضية لن تنتهي هنا، كما لم تنته سابقا لا بكارثة اتفاق أوسلو (1993)، ولا بإخفاق مفاوضات كامب ديفيد وطابا (2000-2001)، ولا بضياع خطة "خريطة الطريق" (2002)، ولا بنسيان "مسار أنا بوليس" (2008)، أي أن الشعب الفلسطيني سيواصل نضاله من أجل حقوقه، نجح الاستحقاق أو لم ينجح؛ فهذه ليست نهاية الطريق؛ وهذا هو معنى التفكير باستحقاقات ما بعد استحقاق أيلول.

لكن ما العمل؟ ما البديل؟
إزاء كل ما تقدم ومع التأكيد على أهمية تعزيز وضع فلسطين على الصعيد الدولي وفي مختلف المحافل الدولية، إلا أن ذلك يجب أن يرتبط بأفق سياسي واضح وبإستراتيجية تراعي متطلبات العملية الوطنية، ووحدة الشعب الفلسطيني. عدا عن ذلك فإن علم القيادة أو الإدارة هو في جزء مهم منه يتعلق بعلم استثمار الموارد وإدارتها بالطريقة الأمثل للحصول على عوائد أو نتائج أكثر وأفضل.

لكن بالقياس على ذلك في موضوعنا، فإن القيادة الفلسطينية في كل سياساتها مازالت تتمترس عند المعادلات التي انطلقت منها عملية التسوية قبل عقدين من الزمن (أوسلو 1993)، علما بأن ثمة مياها كثيرة جرت في "النهر" منذ ذلك التاريخ، وثمة معطيات دولية تغيّرت، وثمة تغيرات في النظام الرسمي العربي، جاءت محمولة على رياح الثورات الشعبية؛ وهذا ما ينبغي أن تلتفت إليه القيادة الفلسطينية لتعزيز مكانتها وتحسين أوراقها.

اللافت هنا أن هذه القيادة تهدر عمليا أوراقها الفلسطينية (اللاجئين)، ولا تلقي بالا لأوراقها الإقليمية (التحوّل التركي) والعربية (تغيّر معطيات النظام الرسمي بعد الثورات العربية) والدولية (المتعلقة باستثمار أزمات الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية)، في محاولاتها لفرض معادلات جديدة لصالح الحقوق الفلسطينية، على أساس أن ما كان مقبولا واضطراريا في الظروف العربية والدولية السابقة ما عاد مناسبا ولا لائقا ولا مقبولا الاستمرار به.

لذا فإن المطلوب من القيادة الفلسطينية أن تحسم أمرها، ليس بتحسين شروطها في إطار اتفاقيات أوسلو، فهذا لم يعد كافيا وحده، وإنما بالتوجه نحو مراجعة كل المعادلات التي جرت بناء عليها عملية التسوية، لا سيما لجهة البحث عن خيارات سياسية أخرى بديلة، تكون أكثر تجاوبا مع حقوق الفلسطينيين.

وربما بات من المفيد والمجدي أكثر أن تبدي هذه القيادة نوعا من الحزم بوقف العملية التفاوضية، المذلة والمهينة والعبثية، وحمل الوضع برمته، مع الدول العربية، إلى الأمم المتحدة، لتحميل المجتمع الدولي مسؤولية التسوية، وإنفاذ القرارات ذات الصلة التي كان اتخذها في شأن قضية فلسطين.

وثمة قرارات مهمة، مثل القرارين 181 القاضي بتقسيم فلسطين وإقامة دولة للفلسطينيين، و194 القاضي بحق العودة للاجئين وإيجاد حل عادل لقضيتهم؛ وكذا قرارات مجلس الأمن الدولي، من القرار 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967، إلى القرار 1397 لعام 2002 القاضي بإقامة دولة فلسطينية.

لكن السير في هذا المسار يعني أن هذه القيادة يجب أن تذهب به إلى نهايته، إذا لم تستطع تحقيق النجاح فيه (بإقامة الدولة المرجوة)، إلى درجة الذهاب نحو حل السلطة، أو على الأقل إنهاء دورها الوظيفي التفاوضي والأمني، وتقويض المعادلات التي قامت عليها اتفاقات أوسلو من أساسها، وكشف إسرائيل على حقيقتها كدولة استعمارية عنصرية وأصولية.

وفي هذا الإطار يمكن للفلسطينيين، وهذا هو الأهم، أن يشتغلوا أكثر بترتيب بيتهم، وضمن ذلك إعادة اللحمة إلى ساحتهم، في إطار يحفظ سلامة التعددية والعلاقات الديمقراطية، ويكفل توجيه الجهود لمواجهة السياسات الإسرائيلية. ولعل هذه هي اللحظة العربية المواتية للفلسطينيين لإعادة تفعيل منظمة التحرير وإعادة بناء مؤسساتها، واستعادة الحركة الوطنية لطابعها كحركة تحرر وطني.

لدى إسرائيل ما تخشاه وما تخسره
على أي حال ليس للفلسطينيين ما يخسرونه في هذه المحاولات، (إذا استثنينا فئات محدودة تعايشت مع امتيازات السلطة)، ذلك أن هكذا سلطة لم تنه الواقع الاستعماري والاستيطاني والعدواني في الأراضي المحتلة عام 1967، بل إنها طمست هذا الواقع، من دون أن تتمكن حتى من إنتاج كيانية سياسية للفلسطينيين، قادرة على التواصل والصمود والتطور.

ولنفكر في الأمر قليلا بتأنّ، ذلك أن إسرائيل -وليس الفلسطينيين- هي التي ينبغي أن تخشى انسداد كل الخيارات التي تؤول إلى إقامة دولة مستقلة للفلسطينيين، وانفتاح مسار التحول من حل الدولتين أو من الحل الجغرافي نحو خيار الدولة الواحدة العلمانية الديمقراطية، وهي التي ينبغي أن تخشى من التحولات والتغيرات في البيئة السياسية العربية، كما من تعرضها لعزلة دولية.

وفي الحقيقة فإن الظروف الدولية والعربية السائدة باتت تتجه بوضع علامات شك حول وضع إسرائيل وحول مشروعيتها، السياسية والقانونية والأخلاقية في المنطقة، وهذه المناخات هي التي تشجّع الفلسطينيين على طرح مشروع الدولة الواحدة الديمقراطية المدنية العلمانية، دولة المواطنين أو ثنائية القومية، ضد مشروع إسرائيل اليهودية الدينية العنصرية الاستعمارية، باعتباره المشروع الذي يساير عجلة التاريخ فيما مشروع إسرائيل يسير عكس التاريخ.

بمعنى أكثر تحديدا، فإن إسرائيل في هذه المناخات الدولية والعربية، التي تسير نحو ترسيخ قيم الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية، باتت تتحول، أكثر فأكثر، إلى مجرد ظاهرة رجعية في المنطقة، تسير على الضد من المسارات التي فتحتها الثورات الشعبية التي أعادت هذه المنطقة إلى التاريخ العالمي.

هكذا، فإن الفلسطينيين لهم مصلحة أكيدة اليوم بتفحّص المعطيات الجديدة والتحولات الحاصلة لتجديد مشروعهم الوطني، واستعادة حركتهم السياسية لطابعها كحركة تحرر، وتحقيق التطابق بين ارض فلسطين وشعب فلسطين ومشروع التحرر خاصّتها.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2011