16 septembre 2015
قصيدة الارض
قصيدة الأرض-محمود درويش
- في شهر أذار.. في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
- أسرارها الدمويّة.. في شهر أذار مرّت أمام
- البنفسج والبندقيّة خمس بنات.. وقفن على باب
- مدرسة ابتدائيّة، واشتعلن مع الورد والزعتر
- البلديّ.. افتتحن نشيد التراب.. دخلن العناق
- النهائيّ - اذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض
- يأتي، ومن رقصة الفتيات-البنفسج مال قليلاً
- ليعبر صوت البنات.. العصافير مدّت مناقيرها
- في اتجاة النشيد وقلبي.
- أنا الأرض
- والأرض أنت
- خديجة! لا تغلقي الباب
- لا تدخلي في الغياب
- سنطردهم من اناء الزهور وحبل الغسيل
- سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
- سنطردهم من هواء الجليل.
- وفي شهر أذار، مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس
- بنات.. سقطن على باب مدرسة ابتدائيّة.. للطباشير
- فوق الاصابع لون العصافير.. في شهر أذار قالت
- لنل الأرض أسرارها.
- أسمّي التراب امتداداً لروحي
- أسمّي يديّ رصيف الجروح
- أسمّي الحصى أجبحة
- أسمّي العصافير لوزاً وتين
- أسمّي ضلوعي شجر
- وأستلّ من تينة الصدر غصناً
- وأقذفة كالحجر
- وأنسف دبّابة الفاتحين.
- وفي شهر أذار، قبل ثلاثين عاماً وخمس حروب،
- ولدت على كومة من حشيش القبور المضئ.
- أبي كان في قبضة الانجليز.. أمّي تربّي جديلتها
- وامتدادي على العشب.. كنت أحبّ " جراح
- الحبيب وأجمعها في جيوبي، فتذبل عند الظهيرة،
- مرّ الرصاص على قمري الليلكيّ فلم ينكسر
- غير أن الز مان يمرّ على قمري الليلكيّ فيسقط في
- القلب سهواً..
- وفي شهر أذار نمتدّ في الأرض
- في شهر أذار تنتشر الأرض فينا
- مواعيد غامضة
- واحتفالاً بسيطاً
- ونكتشف البحر تحت النوافذ
- والقمر الليلكيّ على السرو
- في شهر أذار ندخل أول سجن وندخل أول حبّ.
- وتنهمر الذكريات على قرية في السياج
- وادنا هناك ولم نتجاوز ظلال السفرجل
- كيف تفرّين من سبلي يا ظلال السفرجل؟
- في شهر أذار ندخل أةل حبّ
- وندخل أول سجن
- وتنبلج الذكريات عشاء من اللغة العربية
- قال لي الحبّ يوما: دخلت إلى الحلم وحدي فضعت
- وضاع بي الحلم.. قلت: تكاثر! تر النهر يمشي
- اليك.
- وفي شهر أذار تكتشف الأرض أنهارها
- بلادي البعيدة عني.. كقلبي!
- بلادي القريبة مني.. كسجني!
- لملذا أغنّي
- مكانا، ووجهي مكان؟
- لماذا أغنّي
- لطفل ينام على الزعفران
- وفي طرف النوم خنجر
- وأمّي تناولني
- صدرها
- وتموت أمامي
- بنسمة عنبر؟
- وفي شهر أذار تستيقظ الخيل
- سيّدتي الأرض!
- أيّ نشيد سيمشي على بطنك المتموّج، بعدي؟
- وأيّ نشيد يلالئم هذا الندى والبخور
- كأنّ الهياكل تستفسر الآن عن أنبياء فلسطينفي بدئها
- المتواصل
- هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة -
- هذا نشيدي
- وهذا خروج المسيح من الجرح والريح
- أخضر مثل البنات يغطي مساميرة وقيودي
- وهذا نشيدي
- وهذا صعود الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس..
- في شهرأذار تستيقظ الخيل.
- والقمم اللولبيّة تبسطها الخيل سجّادة للصلاة السريعة
- بين الرماح وبين دمي.
- نصف دائرة ترجع الخيل قوساً
- ويلمع وجهي ووجهك حيفا وعرساً
- وفي شهر آذار ينخفض البحر عن أرضنا المستطيلة مثل
- حصان على وتر الجنس.
- في شهر آذار ينتفض الجنس في شجر الساحل العربيّ
- وللموج أن يحبس الموج.. أن يتموّج.. أن
- يتزوّج.. أو يتضرّج بالقطن
- أرجوك - سيّدتي الأرض - أن تسكنيني وأن تسكنيني
- صهيلك
- أرجوك أن تدفنيني مع الفتيات الصغيرات بين البنفسج
- والبندقية
- أرجوك - سيّدتي الأرض - أن تخصبي عمري المتمايل
- بين سؤالين: كيف؟ وأين؟
- وهذا ربيعي الطليعيّ
- هذا ربيعي النهائيّ
- في شهر آذار زوجت الأرض أشجارها.
- كأنّي أعود إلى ما مضى
- كأنّي أسير أمامي
- وبين البلاط وبين الرضا
- أعيد انسجامي.
- أنا ولد الكلمات البسيطه
- وشهيد الخريطه
- أنا زهرة المشمش العائليّه.
- فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
- من البدء حتى الجليل
- أعيدوا إليّ يديّ
- أعيدوا إليّ الهويّه!
- وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال
- وتأتي العصافير غامضة كاعتراف البنات
- وواضحة كالحقول
- العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات.
- خديجة!
- - أين حفيداتك الذاهبات إلى حبّهن الجديد؟
- ذهبن ليقطفن بعض الحجارة
- قالت خديجة وهي تحث الندى خلفهنّ.
- وفي شهر آذار يمشي التراب دماً طازجاً في الظهيرة…
- خمس بنات يخبّئن حقلاً من القمح تحت الضفيرة…
- يقرأن مطلع أنشودة عن دوالي الخليل.. ويكتبن
- خمس رسائل :
- تحيا بلادي
- من الصفر حتى الجليل
- ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.
- خديجة! لا تغلقي الباب خلفك
- لا تذهبي في السحاب
- ستمطر هذا النهار
- ستمطر هذا النهار رصاصاً
- ستمطر هذا النهار!
- وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض
- أسرارها الدمويّة: خمس بنات على باب مدرسة
- ابتدائيّة يقتحمن جنود المظلات.. يسطع بيت
- من الشعر أخضر … أخضر.. خمس بنات على
- باب مدرسة ابتدائيّة ينكسرن مرايا مرايا
- البنات مرايا البلاد على القلب …
- في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
- أنا شاهد المذبحه
- رأيت الحصى أجنحه
- رأيت الندى أسلحه
- عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً
- وأقاموا الحواجز فيّا
- ومنع التجوّل
- صار قلبي حاره
- وضلوعي حجاره
- وأطلّ القرنفل
- وفي شهر أذار رائحة للنباتات.. هذا زواج العناصر.
- آذار أقسى الشهور وأكثرها شبقاً.. أيّ
- سيف سيعبر بين شهيقي وبين زفيري ولا يتكسّر!
- هذا عناقي الزراعيّ في ذروة الحبّ.. هذا انطلاقي
- إلى العمر.
- فاشتبكي يا نباتات واشتركي في انتفاضة جسمي، وعودة
- حلمي إلى جسدي.
- سوف تنفجر الأرض حين أحقّق هذا الصراخ المكبّل
- بالريّ والخجل القروي.
- وفي شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا
- النباتات صاعدة في اتجاهات كل البدايات.. هذا
- نموّ التداعي.. أسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي.
- رأيت فتاة على شاطىء البحر قبل ثلاثين عاماً
- وقلت: أنا الموج، فابتعدت في التداعي.. رأيت
- شهيدين يستمعان إلى البحر.. عكا تجيء مع الموج
- عكا تروح مع الموج.. وابتعدا في التداعي.
- ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت، خديجة! لا
- تغلقي الباب!
- إنّ الشعوب ستدخل هذا الكتاب وتأفل شمس أريحا
- بدون طقوس.
- فيا وطن الأنبياء.. تكامل!
- ويا وطن الزراعين.. تكامل!
- ويا وطن الشهداء.. تكامل!
- ويا وطن الضائعين.. تكامل!
- فكلّ شعاب الجبال امتداد لهذا النشيد،
- وكل الأناشيد فيك امتداد لزيتونة زمّلتني.
- مساء صغير على قرية مهملة
- وعينان نائمتان
- أعود ثلاثين عاماً
- وخمس حروب
- وأشهد أن الزمان
- يخبّىء لي سنبله
- يغنّي المغنّي
- عن النار والغرباء
- وكان المساء مساء
- وكان المغنّي يغنّي
- ويستجوبونه :
- لماذا تغنّي؟
- يردّ عليهم :
- لأنّي أغنّي
- وقد فتّشوا صدره
- فلم يجدوا غير قلبه
- وقد فتّشوا قلبه
- فلم يجدوا غير شعبه
- وقد فتّشوا صوته
- فلم يجدوا غير حزنه
- وقد فتّشوا حزنه
- فلم يجدوا غير سجنه
- وقد فتّشوا سجنه
- فلم يجدوا غير أنفسهم في القيود
- وراء التلال
- ينام المغنّي وحيداً
- وفي شهر آذار
- تصعد منه الظلال
- أنا الأمل السهل والرحب - قالت لي الأرض.. والعشب
- مثل التحيّة في الفجر
- هذا احتمال الذهاب إلى العمر خلف خديجة.. لم يزرعوني
- لكي يحصدوني
- يريد الهواء الجليليّ أن يتكلم عني، فينعس عند خديجة
- يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرس ظل
- خديجة وهي تميل على نارها
- يا خديجة! إني رأيت.. وصدقّت رؤياي.. تأخذني
- في مداها وتأخذني في هواها.. أنا العاشق الأبديّ،
- السجين البديهيّ.. يقتبس البرتقال اخضراري ويصبح
- هاجس يافا
- أنا الأرض منذ عرفت خديجة
- لم يعرفوني لكي يقتلوني.
- بوسع النبات الجليليّ أن يترعرع بين أصابع كفي ويرسم
- هذا المكان الموزّع بين اجتهادي وحبّ خديجة
- هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر من شهر آذار حتى
- رحيل الهواء عن الأرض
- هذا التراب ترابي
- وهذا السحاب سحابي
- وهذا جبين خديجة
- أنا العاشق الأبديّ السجين البديهيّ
- رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكر..
- قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكر
- هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر
- لا يسأل الذاهبون إلى العمر عن عمرهم
- يسألون عن الأرض: هل نهضت
- طفلتي الأرض!
- هل عرفوك لكي يذبحوك؟
- وهل قيّدوك بأحلامنا فانحدرت إلى جرحنا في الشتاء؟
- وهل عرفوك لكي يذبحوك؟
- وهل قيّدوك بأحلامهم فارتفعت إلى حلمنا في الربيع؟
- أنا الأرض..
- يا أيّها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها
- أحرثوا جسدي!
- أيّها الذاهبون إلى جبل النار
- مرّوا على جسدي
- أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
- أيّها العابرون على جسدي
- لن تمرّوا
- أنا الأرض في جسد
- أنا الأرض في صحوها
- أنا الأرض.. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
- موقع: موضوع
Publicité
Publicité
Commentaires